وهكذا رأيت أن نجعل بدء طريقنا في دراسة السيرة النبوية هو العام الذي ولد فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام عام الفيل عام هجوم الأحباش على الجزيرة العربية وخروجهم من اليمن في اتجاه مكة المكرمة لهدم الكعبة المشرفة.
والقصة مشهورة ومعروفة ولا غرابة في ذلك .
بل يكفي دلالة على شهرتها أن الله سبحانه وتعالى خصص سورة من سور القرآن الكريم بذكرها وذكر حوادثها
فقال تعالى ({أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ}{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ}{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ}{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}) سورة الفيل
وهكذا إذن ولأمر يريده الله عز وجل
نظر أبرهه الحبشي فشاهد أن العرب جميعهم في كل عام وفي موسم الحج يجتمعون من شبه بقاع الجزيرة العربية لكي يحجوا إلى بيت الله لحرام .
شاهد أيضا أن لهذا البيت ( الكعبة) مكانة ومنزلة لا تدانيها منزلة .
فأراد المذكور أن يحول أنظار العرب عن الكعبة المشرفة إلى مكان آخر فبنى قصراً عظيماً آتى في وصفه ما آتى . ثم أرسل منادياً يعلن للعرب أن أبرهه الحبشي حاكم اليمن قد بنى كنيسة عظيمة- وتدعى القُلّيس- وهي أحسن طرازاً وأثاثا من الكعبة . وانه على العرب أن يحجوا إليها وهكذا أتى موسم الحج ولكن أحدا من العرب لم يك لي*** ابرهه ونداءه أذنا أو يستجيب له سمعا أو أن ينخدع بالمظاهر الجوفاء التي أحيطت بها كنيسته .
هنا جن جنون ابرهه ووطد العزم على اقتلاع البيت الحرام من جذوره ثم هدمه وتحطيمه .
وسار الجيش يصحبه الفيلة مترئسا عليها فيل ابيض له مكانته عند الحبشة .
ولما شارفوا على الوصول إلى الأرض المقدسة والبيت الحرام أرسل ابرهه بعضاً من جيشه أدى مهمته بنجاح واستولى على مواشي وقطعان القوم .
وأرسل شخصاً ممثلاًً عنه لكي يفهم سيد قريش أن ابرهه لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم البيت الحرام وقتل من يدافع عنه ثم أن يأتي معه سيد قريش إن كان الآخر لا يريد قتالاً .
وفعلاً وبنظره الثاقب وتقديره الحكيم للأمور وجد سيد قريش ( عبد المطلب ) انه لا سبيل لملاقاة الأحباش في ساحة الوغى ولا طاقة له على حربهم .ولهذا لم يجد بدأً من الذهاب لملاقاة ابرهه .
ودخل عبد المطلب وكان رجلاً وسيما ومهيبا على أبرهة فوقعت هيبته في قلب المذكور الذي اجلس عبد المطلب إلى جانبه وجاء يلقي عليه سؤالاً تقليدياً. اطلب يا عبد المطلب .
فكان الطلب : رد علي قطيعي .
هنا فقط نزلت مرتبة عبد المطلب في عين ابرهه الذي بين ذلك له وأضاف السبب بقوله كنت أظن بأنك ستطلب مني أن ارجع وأتنازل عن هدم الكعبة المقدسة عندكم .
وكان رد عبد المطلب رداً معبراً إلى أقصى حدود التعبير عن إيمان عميق بالقوة الحقيقية في هذا الوجود . والفاعل الحقيقي في هذا الكون وهو الرب عز وجل .
واسمع إلى تلك العبارة التي تهز العقل بمواطن الحكمة فيها .
( إنني رب المواشي ... أما البيت فله رب يحميه)
صدقت يا عبد المطلب للبيت رب يحميه .
وينتهي مشهد الحوار لكي نقف أمام مشهد متحرك .
الجنود صفوف يحملون الحراب وأمامها الفيلة بحجومها المخيفة .
يتقدمها ويترأسها فيل ابيض وكّلت إليه ولأتباعه مهمة هدم الكعبة ويتقدم الموقف ويسير الزحف رويداً رويداً والطبول ترعد .
والمسافة تضيق بين الكعبة وبين من يريدون هدمها وفجأة حدث ما لم يكن بالحسبان الفيل الأبيض جثى وامتنع عن السير وكأنه سمر بالأرض . السياط تلهب ظهره ولكن بينه وبين خطوة واحدة يخطوها ألف سلسلة مقيدة بها رجلاه وألف قيد قيدت به يداه ومفاجأة أخرى إذا جعلوا رأسه في الجهة المعاكسة للكعبة أسرع وكأنه ينحدر من علٍ ولا قوة له على تثبيت نفسه .( رجليه) وهكذا يتكرر المشهد والفيل يدور ولكن بدون فائدة .
حينئذٍ يقرر ابرهه أن يهدم الكعبة بنفسه مع جنوده.
ويعود الزحف يسير من جديد وكأن الكعبة تقترب من الزحف ولكن لا لهدمها . بل لأمر أراده الله عز وجل .
وتلبدت السماء ولكن بطيور لا بغيوم بطيور متتابعات تحمل بمناقيرها حجارة من فخار ملوث بالطين .
وتتكرم السماء بخيرها ولكن بحجارة تتساقط لا بمطر ينهمر .
وهنا الفاجعة وهنا الانتقام وهنا العذاب وهنا جزاء من أراد محاربة الله سبحانه وتعالى .
الجزاء المتمثل بتهشيم الأجسام وتحطيمها حتى وكأنها أوراق أشجار قد جفت ويبست وتكسرت ومن أعالي الجبال يهبط عبد المطلب مع العرب من أهل مكة لكي يشاهدوا بأم أعينهم نتيجة الحادثة الرهيبة .
لكي يشاهدوا بعين اليقين التجلي الإلهي بالرحمة والنعمة بالحماية للبيت الحرام ولما يرمز إليه هذا البيت .
وبالضربة القاصمة والبطش الشديد يفتك بمن أراد بهذا البيت شراً نزلوا لكي يعلموا حقيقة أن في هذا الكون قوة غير مرئية تتضعضع أمامها اعتى القوى . ولكي يعلموا حقيقة أن الله عز وجل هو الفاعل الحقيقي لهذا الكون .
ونتيجة أخرى بل ولطيفة ربانيه لعلها توحي إلى حادث كبير حدث في هذا العالم بل هذا ما جرى حقيقة .
فإذا تهاوى الظلم واندحر العدوان وار تكس أعداء الله في تلك الواقعة . فقد كان هناك حدث آخر . اندحر عن طريقه الظلام الذي كان مخيماً على الكون . وما كان هذا الحدث إلا النور الوضاح وصاحب الشفاعة العظمى وأحب خلق الله إلى الله . وما كان هذا النور إلا ولادة سيد الأبرار ومنبع الأنوار ومعدن الأسرار وجمال الكونين وشريف الدارين وسيد الثقلين سيدنا محمد المصطفى المخصوص بقاب قوسين صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه والتابعين . والحمد لله رب العالمين